الهجرة بمدلولاتها الآتية والحاضرة دروسٌ لا تنتهي آفاقها. بدأها نبي الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم لتفتح أمام المسلمين طريق الصبر والمصابرة حتى يأذن الله بانتصار الحق على الباطل.
في قياس المسافات الأرضية تلتف الأرض وتطوى مساحاتها تحت أقدام المسلم فالأرض أرض الله والمسلم خليفة الله في أرضه. ينتقل أو يُنقل سيان. فكلمة التوحيد ليس لها مكان مغلق ولا زمان محدود.
في رمضاء الصحراء بين مكة والمدينة كما اليوم في رمضاء الواقع الفلسطيني المؤلم، وكما في جبال الصقيع في كوسوفو وجبال القوقاز. إنها الهجرة والتهجير مهما حملت من صيغ وأساليب. ومهما تعددت الاتجاهات والأسباب.
فالمسلم الذي حمل أمانة التوحيد في عقله وحب أرضه في قلبه يسير بهما أينما ذهب وحل. من مكة إلى المدينة كان الإسلام يمضي قدمًا قويًّا لا تلغيه حدود. ولا تشوهه رمال الصحراء وعواصف الرياح الساخنة، وهو كذلك من فلسطين إلى الشتات. ومن كوسوفو إلى أرض الله الواسعة. لا تلغيه محنة الحدود ولا يشوهه سقوط المتساقطين على الطريق.
مهما سافرت الأعين وتغيرت أمامها المشاهد يبقى الوطن وتبقى الأرض. ومهما عسف الطغاة في مكة. ومهما تجبّر طغاة العصر الجديد لا بد أن يبدأ الحق جولته المنتصرة.
الهجرة كالجهاد ولا هجرة بلا إيذاء ولا إيذاء بلا صبر وثبات وعلى الله الأجر والثواب. يقول تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}... (آل عمران: 195).
في الهجرة روح العودة. ولا يأس مع الهجرة. فهي محطة للذاكرة والتحفز وما دام الإيمان سر الانتماء فلا هجرة بلا مقصد. ولا جهاد بلا هدف. إنها بناء الذات المسلمة الراسخة على قواعد الإيمان والجهاد. لا حياة للهجرة ولا روح إن لم يكن الإيمان جوهرها، وإن لم يكن الجهاد سنامها.
وهي كما جسدها رسول الإنسانية محمد -صلى الله عليه وسلم- لتكون سفرًا مفتوحًا يقرؤه المسلم أينما حل وكيفما عانى وبأي طريق هاجر أو هُجِّر. ومن ذلك الدرس انطلقت أنوار الإسلام لتعم الأرض. وإلى غاية السعادة النفسية للمسلمين هبّت جحافل الرحمن تدك عروش الطغاة، وتُسقِط أوثان الجاهليين حطامًا جذاما. يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}... (التوبة: 20).
فمن يرفض أعظم درجة عند الله؟ أليست الهجرة محطة؟ أليست دائرةً تسير فيها الخطى لتعود إلى نقطة بدئها؟ فلن تكون خطىً بلا نهاية، أو متاهةً بلا بصيرة، أو سرابًا بلا حدود. هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب لا ليسكنه الجمود ويقيد دعوته الشريفة بالحدود. هاجر وفي النفس إيمان كامل الشكل والمضمون، هاجر وفي الروح توثّب دائم نحو اقتلاع الكفر والظلم والطغيان، هاجر لتستمر الدعوة، وليستمر الجهاد ضد الطواغيت والجهلة والظالمين.
فلتكن الهجرة حافزًا لأمة الإسلام كي تعيد الكرة على الطغاة، وتنطلق موحَّدة نحو الأقصى تقودها الثقة بنصر الله وبوعده في الدنيا والآخرة. يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}... (الحج: 58).
المصدر: موقع إسلام أون لاين